العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. “أمل” والحب الذي تصحّر بالحرب

يمنات

أحمد سيف حاشد

  • أمل فتاة لازلت دون الـ 18 عام بقليل .. هي الزهر و الربيع .. الخيول و الفرسان .. الأحلام و الذكريات .. ممشوقة القوام كرمح إذا انتصبت، و خيزرانة إذا أنحت .. قوامها يناديك فتتمنى أن تكون نبتة لبلاب تتسلق و تستدير على القوام من القدمين إلى الخصر حتى تبلغ عنقها الذي يناديك لصلاة القبل و غمرة الحب العميق .. تطوف عليه ناسكا متعبدا حتى تدوخ في عوالمه التي تسلب منك لبابك، و تسافر في الروح من الشفتين إلى الأقاصِ و الآماد البعيدة .. ما أجمل أن تسكر في الحب حتى تثمل، و تعرج بالروح إلى السموات العُلا..!!
  • أمل فتاة يافعية حميرية من اليمن .. حسنها لا يتلاشى ولا يزول .. الجمال مهما غمر و اكتمل يظل ناقصا دونها .. لا يكتمل و لا يتم مهما بذخ إلا بفيضها الوافر سحرا و فتنة .. رشاقتها تشغفك حتى تتمنى أن تكون خاصرتها مدارك الذي لا تشرد منه و لا تتوه عنه حتى آخر العمر .. عمرك مهما أمتد و أوغل في السنين يظل معها فوّارا بعنفوان الشباب الذي لا يبلى و لا يكهل و لا يشيخ..
  • سمرتها الخفيفة تجلي صفاء و بهاء و جاذبية .. بهية تنفذ للقلب كغيمة يملاها المطر .. شعرها من شدة سواده و لمعان زيته تريد أن تكون في شباكه أسيرا، و حنينا تتنفس عبقه و عطره عند السدول .. تشتم رائحة الطين و المطر بين جدائله .. لو كان الليل مثل شعرها لكنت أول ساكنيه إلى الأبد، و لو كان السواد مثل شعرها لكان الأسود يُعبد من زمن بعيد..
  • كل يوم تكتشف في روحها و جمالها ما كنت تجهله .. معرفة بلا حدود، و عمق بلا قرار يجعلك دوما تكتشف كم أنت في الحب قاصر و جاهل .. جميلة الروح و آسرة الطلعة و جاذبة كالمغناطيس .. مسكونة بثورة أنثى تتمنى أن تلج إليها، و تشتعل في أوارها، و تنصهر فيها كسبيكة ذهب..
  • كنت ولوعا برؤيتها كلما أمكن .. أمعن النظر فيها و أغرف ما أستطيع خزنُه في الوجدان و الذاكرة .. استزيد منها مددا لخيالي الذي لا يخبو و لا يخفت و لا ينطفئ .. يمنح الروح نشوة و تجددا و حياة.. أستلذ من شهدها المخزون في دوح خيالي حتى أدوخ و أغرق في العميق، و ألقي عن كاهلي أحمالي الثقال .. أعوّض ما فات أو استحال أو كان عصيا على التحقيق أو صعب المنال..
  • كنت أهيم فيها و أتي إليها من بعيد لأراها، و لواعجي بين الضلوع تشتاق و تشتعل، و لهفتي تسابق أنفاسي المربكة .. خطواتي تتمرد على موانعها الكديدة .. كتبت لها بما فيني من شوق و لوعة، و بحت بما في شفاف روحي يصطلي .. و بعد ألف امتناع و ألف محاولة استقدمتها، و لكني كبرتُ على ذاتي، و تعاليتُ في شأنها، و لم أسقط أو أنزلق في محذور المنحدر .. لقد كانت لنا قصة و إن لم تكتمل، و رغم أن الأرض رخوة، و الانهيارات كبيرة، و خطواتي تمشي على ممشى زلق، إلا أنني لم أنزلق، و لم أقع في مهاوي السقوط..

***

  • زرت عزبة صديقي عبد الكريم سعيد علوان و أصدقائه في “كريتر” و التي تبعد جنوب غرب البريد بعشرات الأمتار .. كان هذا قبل أحداث يناير 1986بعام أو أقل بقليل .. كنت أقرأ أحدى الصحف، فسمعت ضوضاء..!! شاهدتها من النافذة مسرعة تركض خلف أطفال صغار .. مرقت كحلم ندي .. رفّت كنسمة بحر أنعشت روحي الباحثة عن أمل وسط وجوم اليأس و سنوات التصحّر .. أحسست و كأن القدر رضا عني، و في وجهي أشرق و أبتسم .. بدت أمامي لحظة زاهية كبشارة ولادة حب جديد تعوضني عن حبي الذي خاب، أو الذي فات و لم يعده الندم..!!
  • كنت أعرّج على العزبة كلما سمحت لي الفرصة و تأتت الظروف .. أحاول أن أداري شوقي و لهفتي أمام أصدقائي في العزبة حتى لا يقطع الخجل مجيئي، أو يتم إفساد ما بيننا على أي نحو كان .. في كل زيارة كنت أريد فقط أن أراها .. أن أتأكد من وجودها .. كانت هي رجائي و الهدف من مجيئي، و لكني كنت أعود في كل مرة أحمل خيبتي لا سواها .. كاد اليأس أن يدركني في أن أراها مرة أخرى، غير أن صدفة أنقذتني من خيبتي التي أثقلت كاهلي و انتظاري الذي طال..
  • و في يوم كان لي سعد من الحظ و صدفة من السماء .. خرجتُ من عزبة أصدقائي في حدود الساعة الخامسة بعد العصر .. شاهدتها على الحائط التابع لمنزلهم تطل على الخارج .. وجهها يميل إلى استطالة متناسقة، ينضح بالوسامة الأخاذة في إجماله و تفاصيله .. بدأ لي وجهها الجميل كآية خالدة، و برهان أكيد أن للكون خالق جميل و محترف..
  • اعترتني حالة من الإرباك .. تملكتني الدهشة من أول وهلة .. توقفتُ برهة و كأن البله قد شل حركتي، فيما عيوني تسمرت نحوها .. أمعنت فيما أنا فيه .. أردت أن يكون وقوفي ملفت لها، و مروري على غير كل من يمر أمامها .. تمكنتُ أن أشد انتباهها على النحو الذي أردت .. عيونها ترمقني بنظرات كلها دهشة و عجب..! فيما ضحكة كتومة كانت تكتظ في صدرها الناهد، و تتبدى بحياء على وجهها الخجول، و مبسمها الآسر للنظر..
  • قطعت إلى الشارع العام بخطوات ثقيلة، و كأن أقدامي مربوطة بحبال تُشدها بيديها .. بديت مأسورا و خطواتي طوع اليدين .. أمشي ببطء و كأن سيقاني غارقة في بلل الطين الرخو، فيما وجهي يستدير إلى الوراء نحوها، و على نحو لافت و متتابع .. أرمقها بنظراتي التي أبدو فيها و كأنني نسيت لديها رأسي، أو استودعتها قلبي الذي أريد أن أطمئن عليه قبل الوداع..
  • أحسست إن الصدفة أحيتني بعد أن كاد اليأس يستولي على كل شيء فيني .. مسحت كدري و ما علق في وجهي من ملل و سأم الانتظار خلال زياراتي المتفرقة التي أخفقت و أدركها عاثر الحظ و الفشل .. طلّتها بددت خيبتي و أنستني ما كان بي من ضيق و ضنك و كآبة .. أحيت فيني غابة من الأحلام الجميلة و الآمال العراض .. خامرني إحساس أن ثمة تشجيعا منها يدعوني إلى ما هو أجمل و أعمق، أو هذا ما توهمتُ أو كان فيه الوهم لذيذا و جالبا لكثير من السعادة..
  • مررت في اليوم الثاني، و في نفس الساعة التي كنت قد صادفتها على السور في اليوم الذي قبله، و لكن كان مجيئي من الشارع البعيد المقابل، متمنيا أن أراها مرة أخرى .. نطقت روحي: يا إلهي .. لقد أصاب مناي و حصحص الحق في حب أروم .. شاهدتها مطلة على نفس الحائط و المكان، و كأن القدر أراد أن يجعل للصدفة قصة تبتدئ منها و تزهر فيها الأيام القادمات..
  • داهمتُ نفسي بالأسئلة: هل هو حدسها الذي دلها أنني سأعود..؟! هل كانت تنتظر مجيئي في ذلك الوقت بالذات..؟! هل حدسنا المختبئ فينا هو من حدد الموعد..؟! أم هو موعد تنادت إليه أرواحنا الشفيفة المشتاقة إلى لقاء، و إن كان في حدود الاقتراب و النظر..؟!!
  • أحسست أن قصة حب جديدة تبتدئ و تمضي على ما يرام في طريقها الصحيح .. شعرت بلحظة سعادة تغمرني بفيضها الجميل .. أحسست إن القادم سيكون أجمل .. عامر بالمسرات و حافل بالفرح و اللقاءات الجميلة .. هرعت إليها بعجل لافت و بخُطى تسابق بعضها .. بديت مهرولا في بعض الطريق، و هي ترمق مجيئي بذهول و دهشة .. فيما كنت أحدث نفسي: يجب أن لا أترك الخجل و الحياء يخيّبان رجائي هذه المرّة..
  • خطواتي المتسابقة بدت على نحو تلفت نظر بعض المارة .. بديت أمامها و كأنني منقضا عليها كصقر يريد أن ينشب أظافره في لحمها الطري، و أخذها إلى البعيد .. تملّكها الفزع و استحوذ عليها الهلع .. اختفت هي و أختها من على السور بسرعة مستعد يقظ أو خائف جزع .. لاذت بالفرار ذعرا، و الاختباء في جحرها كـ”أرنبة” .. انتظرت نصف ساعة لعلها تعاود الطلول فلم تطل .. عدتُ أحمل رأسي المثقوب بخيبة، و ظهري المكسور بهزيمة .. أتهمتُ نفسي بالغباء الفاحش و العجل الأحمق و فقدان البصيرة..
  • عدت اليوم الثالث في نفس الساعة التي رأيتها في اليوم الذي سبق .. رأيتها في نفس المكان الذي تطل منه على السور .. دق نياط قلبي بما شجى .. زقزقت عصافير قلبي بالفرح .. حاولت أن أتجنب الخطأ الذي سبق وجلب لها الذعر و الفزع .. حاولت أهدئ نفسي و أتوازن قدر ما أستطيع، و في قبضة يدي قصاصة صغيرة كنت قد كتبت فيها كلمة واحدة هي: “احبك” .. عطّفتها حتى صارت كبرشام صغير، و عندما صرت على مقربة منها، ملت إليها قليلا و رميت بها إلى خلف السور الذي تطل عليه .. تفاجأت هي بما بدى مني، و اختفت .. توقعتُ أنها ذهبت لالتقاطها، و أن خجلها منعها من أن تعود و تطل ثانية..
  • وصلت رسالتي إليها كما يجب .. أحسست إن طلبي و قصدي قد بلغها على ذلك النحو الذي أريد .. لابأس من انتظار قبول الطلب اللاعج باللهفة و الشوق .. و كان فعلها في اليوم الذي تلاه قبول مؤكد للطلب، لا يحتمل التفسير سواه، و قد رأيتها تطل من نفس المكان و تنتظر في أول دقيقة من الوقت الذي أعتدنا عليه .. أحسست أن فضولها سيظل يبحث و يتطلع إلى معرفة التفاصيل..
  • كانت الساعة ما بين الخامسة و السادسة موعدنا الذي اختارته لنا أقدارنا لننطلق منه .. بدأت أومي لها بيدي و أحثها بالإشارة على الخروج .. خروجها الأول كان مع أخيها الصغير إلى مكان قريب .. تبعتهم و لكني لم اتمكن من الكلام، و اكتفينا بتبادل النظرات و الابتسامات و ملامح الفرح..
  • في المرة الثانية أطمئنت لي و تشجعت بالخروج بمفردها إلى مكان غير بعيد .. اقتفيت أثرها، و عندما صرت بموازاتها تحدثت معها دون أن ألتفت إليها، و لكنني حاولت أن اطمئنها أكثر، و أحثها على الخروج معي إلى مكان أبعد لنتمكن من الحديث بحرية و روية .. نجحنا في تحديد المكان .. مقهى ـ “بوفية” ـ تجمع بين المشروبات و الوجبات الخفيفة .. اتفقنا أن انتظر الغد فيها الساعة الثالثة عصرا حتّى تمر، ثم أتبعها إلى ما تقودنا إليه أقدامنا .. و في الموعد المحدد تم الوفاء و التغلب على مصاعب الخروج .. مر البهاء كـ”عروس” .. أنقدتُ بعدها كمسحور إلى شارع فرعي ثم إلى زقاق .. تحدثنا قليلا بحذر و رهبة .. تحدثنا بقليل من البوح و كثيرا من الخوف و القلق و الاضطراب..
  • كان والدها شديدا و قاسيا .. و كانت أعذارها للخروج قليلة و محدودة تنجح بعسر، و أحيانا تتم بمغامرة يقابلها عند اكتشافها جزاء ثقيل و منع يشبه الحجر .. كانت أكثر وعودنا تخيب بسبب منعها، أو ارغامها على أن يرافقها أحد من أهلها .. أخفقت كثير من اللقاءات، و خابت كثير من المواعيد، و بعض المواعيد انتظرها أضعاف الوقت الذي اتفقنا عليه .. كنا نتصرف في لقاءاتنا كما يتصرف العشاق المحاصرين بعيون الوشاة و المحاذير و صرامة الممنوع، و عندما نتيه عن بعض أو يتقطع وصالنا لهذا السبب أو ذاك؛ نرجع إلى الحائط و المكان لنجمع شملنا مرة أخرى، ثم نبدأ من جديد..
  • صرت أتردد كثيرا على ما أسميتها “بوفية المحبة”، رغم أن أغلب الانتظار كان يمر دون جني أو حصاد .. تعرفت على كثير من الوجوه هناك .. اكتشفت أنني لست المحب الوحيد الذي ينتظر محبوبته هناك، بل وجدت كثيرين غيري ينتظرون فيها و يلتقون، ثم يغادرون لا أدري إلى أين..!! كانا أشهرهم شاعر مرموق و مذيعة مشهورة..
  • عندما تفجرت أحداث 13 يناير 1986 وجدت نفسي على مقربة مع من أحب .. جميل أن تجد نفسك في الحرب جوار الحبيب .. رائع أن تدير ظهرك للمتراس و توجه وجهك إلى وجه من تحب .. لم أكترث بالحرب قدر اكتراثي بالحبيب .. الحب في الحرب سلام ودعة حد اليقين .. حياة جديرة أن نعيشها بسلام، غير أن أوامر المسؤول على المنطقة التي كنت متمركز فيها جاءت صارمة بالانتقال إلى مكان آخر .. انتقلت و أنا أمضغ خيبتي و استودعت قلبي عند الحبيب، و لم أنزلق إلى سفك قطرة دم واحدة..
  • بعد أحداث يناير زرت “بوفية المحبين” .. وجدت أبوابها مغلقة .. وجهها مجدور بالرصاص .. بدت كخرابة ينعق بها البوم .. تصحر الحب فيها و أجدب .. لا وعد فيها و لا لقاء و لا انتظار حبيب .. لم تعد الأيام كما كانت .. ذبل الورد و يبست الأزهار، و سُفك الدم العزيز، و أنهزم الوطن، و لازال مهزوما إلى اليوم .. تمزقت الروح و آلت الأحلام و الآمال إلى بدد .. انتحر الشعر على بوابة الحلم الكبير، و غاب الشاعر عن حبيبته، ثم رحل وحيدا بداء عضال دون أن يجد من يساعده .. و أصاب المصاب الجلل حبيبته التي أُعدم أخيها، و تم زج الآخر في المعتقل..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى